
ما بصدقكم.
للفنان عثمان حسين أغنية جميلة مشهورة من روائع الشاعر السر دوليب، بعنوان “ما بصدقكم”. هي “أصدق” وصف لحال الحكومة السودانية ماليًا.
أسهل عذر تقدمه الحكومة -بل كل الحكومات- هو أن ضيق ذات اليد لا يسمح بترف تقديم الخدمات بالصورة الكريمة التي تليق بالمواطن السوداني، أو توفير البنى التحتية للدولة، أو تنفيذ مشروعات التنمية المختلفة. تتعامل الحكومة -كل الحكومات- بمنتهى البخل، فلا تنجز -إن أنجزت- إلا أقل قدر من المشروعات بأدنى المواصفات.
نظرة إلى الطرق في ولاية الخرطوم -التي يُفترض أنها العاصمة الحضارية- توضح إلى أي مدى تُشيّد بأدنى المطلوبات. ما إن يمر عليها موسم أمطار واحد حتى تتفتت وتتحول إلى حزام من الحفر المتراصة.
شاهدت بأم عيني في مدينة أم درمان شركة أُسند إليها إعادة تأهيل طريق مُسفلت، وظلت لأكثر من أسبوع تعمل في كيلومتر واحد. ما إن وصلت إلى نهايته، حتى بدأت شركة أخرى، عُهد إليها بالصيانة، أعمالها في إصلاح ما أنجزته الشركة الأولى.
لا تتمتع العاصمة بصرف صحي أو سطحي، وتجتمع حكومة الولاية في بداية الصيف لبحث “ترتيبات مواجهة الخريف”. تباشر عمليات مكلفة لفتح المجاري الفقيرة، لكن ما إن تهطل الأمطار حتى تفيض الشوارع بالمياه، وتتحول الأحياء -مهما كانت راقية- إلى بحيرات راكدة تُنتج البعوض والأمراض.
كل ذلك تحت لافتة “الفقر المصطنع”. تصر الحكومة على أن عذرها الأبدي في ضعف الخدمات أو غيابها هو أنها فقيرة، لا تملك إلا قوت يومها، وتنوء بحمل مشاق صرف المرتبات وإدارة جهاز الدولة المتخم. والحقيقة خلاف ذلك تمامًا.
الحكومة السودانية -في مختلف العهود- غارقة في الأموال، معظمها مستحلب من جيب المواطن. لكنها تُغدق الصرف على طبقة معينة من كبار موظفيها، بل تترك لهم حرية تقدير ما يحتاجونه لأنفسهم من المال العام: مرتبات، حوافز، نثريات، سفريات للخارج بحجج وهمية، امتيازات، بدلات اجتماعات، بدلات لجان، وغيرها من قائمة لا تنتهي من البنود المختلقة.
وزارة اشترت سيارة جديدة، ثم شكلت لجنة لاستلامها، وصُرف ما يعادل 50% من قيمتها حوافز لأعضائها، الذين كتبوا اسم المدير في أعلى القائمة باعتباره مشرفًا على اللجنة. كل هذا يتم في ما يُعرف بالصرف الموثق، عبر اللوائح والمستندات. ولا أحد يعلم كم الأموال التي تتسرب بالفساد دون مستندات.
من حق الشعب السوداني أن يصرخ في وجه الحكومة إذا تذرعت بقلة الموارد، وأن يهتف بأعلى صوته “ما بصدقكم”. فالأموال متوفرة، لكن بنود صرفها لا تُسع حتميات المواطن المغلوب على أمره.
عندما أقرأ تصريحات بعض المسؤولين وهم يبررون بطء استعادة الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والماء وغيرها، بذريعة الخزينة الخاوية، لا يدهشني التضليل وحده، بل كون الشعب “مظلوم مرتين”، كما يقول التيجاني حاج موسى: مرة لأن أمواله تُحجب عنه، وأخرى لحرمانه من أهم الخدمات الأساسية.
#حديث_المدينة الإثنين 7 يوليو 2025