
عصا الدولة و عسكرة السياسة
رشان اوشي
صراحة، أدهشتني الحملة العنيفة التي طالت تظاهرة شباب في شوارع أم درمان احياء لذكرى “ثورة ديسمبر”. رفعوا شعارات فقط، كلمات في الفضاء العام، لا أكثر. ومع ذلك، انطلقت ماكينة إشعال الرأي العام، مطالبة الدولة باستخدام القوة. والمدهش أن دعاة القمع كانوا من قلب كيانات سياسية وأقلام يفترض أنها تنتمي لمعسكر الحرية.
هنا يبرز السؤال الأخلاقي: كيف يتحول دعاة الحريات إلى منظري القمع؟ وكيف يطلب من الدولة أن تنقض على الفضاء العام؟ إن ماكينة القمع لا تستثني أحد، وستطال الجميع إن جرى تشريعها أخلاقياً وسياسياً.
نعم، البلاد في حالة حرب. لكن الحرب في التحليل السياسي ليست قدراً، بل نتيجة لمسار. فهل كانت حرب 15 أبريل غاية بحد ذاتها، أم مآل طبيعي لتراكمات الإقصاء، وتآكل التوافق، واحتكار القرار داخل دوائر مغلقة؟ الأرجح أنها كانت النتيجة المنطقية لانهيار العقد الاجتماعي، عندما أفرغت السياسة من معناها، واستبدل التنافس السلمي بمنهج الغلبة، وتحولت الدولة من إطار جامع إلى أداة صراع.
بدأت الأزمة سياسية بامتياز: تضييق على الحريات العامة، إقصاء فئات كاملة من الفضاء العام، ومحاولات مستمرة لاختطاف القرار الوطني. هكذا تطورت المعركة من نزاع على السلطة إلى حرب مفتوحة، أفضت إلى نزوح الملايين، وتدمير البنى التحتية، ومحو أجزاء من الذاكرة الوطنية. وهذا هو المسار الكلاسيكي لما تسميه العلوم السياسية “عسكرة السياسة”، حين تفشل المؤسسات المدنية في استيعاب الاختلاف على الحد الأدنى.
إن أخطر ما يمكن أن تواجهه دولة تتشكل أثناء حرب طاحنة، ليس التظاهر السلمي، بل الذهنية التي ترى في كل اختلاف تهديد وجودي. فالدولة التي تخاف من الشعارات، وتخشى الصحافة والرأي، ستخاف غداً من المجتمع نفسه.
وبما أن قوى اليمين استطاعت التعبير عن موقفها الوطني عبر خطاب الحرب والمقاومة، فإن من حق المجموعات اليسارية، التي قاتلت أيضا في صفوف الجيش، أن تعبر عن مشروعها السياسي المرتكز على “ثورة ديسمبر”. هذا التنوع في الرؤى والتعبير ليس خطراً على الدولة، بل دليل على حيويتها، طالما أنه يتم تحت مظلتها، وفي إطارها القانوني والسياسي.
لن تكون حرب 15 أبريل آخر حروب السودان، ما لم يستأصل منهج الإقصاء، وما لم يعاد تعريف الدولة بوصفها حكم محايد في الحلبة، لا لاعب منحاز في فريق، وفضاء للتعدد وليس سجن للاختلاف. يجب إعادة السياسة إلى مكانها الطبيعي: ساحة مفتوحة للتعبير، والتفاوض، وصناعة المستقبل المشترك. أما القمع، فليس سوى استثمار مؤجل في حرب قادمة.
محبتي واحترامي









