
أنبوبة الأكسجين..
عثمان ميرغني
في عطبرة، المدينة المظلومة بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، نزل عمال إلى بئر “سايفون” في أحد الأحياء.. عملية روتينية اعتادها الناس في مدن السودان، وحتى في أرقى أحياء العاصمة الخرطوم. البئر، كما هو معروف، عميقة، وقطرها لا يتجاوز ثلاثة أمتار. تعرض العمال للاختناق بسبب نقص الأكسجين في القاع وزيادة الغازات السامة. لكن العملية تحولت إلى فاجعة كبرى عندما حاول أحد المواطنين إنقاذهم بإنزال أسطوانة أكسجين إليهم، فانفجرت، مودية بحياة تسعة أشخاص، وتسببت في بتر أطراف وإصابات جسدية لعدد مماثل.
لفت انتباهي، في سياق التفكير لتجنب مثل هذه الكوارث، خاصة أن حوادث الآبار التقليدية شائعة، ظهور مقترحات لتحسين وسائل السلامة للعمال، مثل توفير أدوات تنفس ملائمة، تدريب، ووسائل إنقاذ وطوارئ. لكن الجميع أغفل السؤال الأهم الذي يجب طرحه بقوة: هل نحن بحاجة إلى حفر “بئر السايفون” لكل منزل في مدن وقرى السودان؟
هذا السؤال لا يأتي فقط في سياق البحث عن حل، بل لتطوير منهج التفكير العمراني في السودان. ولمن لا يعرف “بئر السايفون”، فهي حفرة عميقة يتفاوت عمقها حسب الموقع، يفضل غالبية السكان حفرها يدويًا، ويطلقون عليها “بئر العرب” لأن العمالة التقليدية غالبًا ما تتولى حفرها. تُستخدم هذه البئر لاستقبال مياه الصرف الصحي والفضلات البشرية وحقنها في باطن الأرض، في عملية تمثل واحدة من أكبر مصادر التلوث البيئي المتعمد.
مع شروق كل صباح، تُحفر آلاف الآبار مثل هذه في مدن وقرى السودان، وتُضَخ مئات الآلاف من الأمتار المكعبة من الفضلات البشرية في باطن الأرض. لا يوجد في السودان نظام شبكة صرف صحي إلا في منطقتين فقط من مدينتي الخرطوم وبحري، نُفِّذتا خلال فترة حكم الرئيس إبراهيم عبود (1958-1964).
ورغم التخلف البيئي والصحي الذي تحمله هذه الآبار، لم تفكر الحكومة بجدية في استبدالها بشبكة صرف صحي حديثة الأقل تكلفة.
أحد معارفي حفر بئرًا كهذه في منزله بعمق يقارب 30 مترًا في أرض صخرية صلبة، كلفته حوالي 30 ألف دولار. هذا يعني أن تكلفة حفر عشر آبار في عشرة منازل تكفي لإنشاء شبكة صرف صحي حديثة لتغطية حي بأكمله.
ومع ذلك، لا توجد حتى الآن خطة أو حتى نية لوقف هذا التدمير البيئي المنهجي، أو لمواكبة متطلبات العمران الحديث. المشكلة لا تتعلق بالمال، فتكلفة إنشاء شبكة صرف صحي حديثة أقل بكثير من تكلفة هذه الآبار. إنها مسألة منهج تفكير متخلف يكبل بلادنا بقيود ماضٍ سحيق لا يتطور.
#حديث_المدينة الإثنين 18 أغسطس 2025