مقالات

السفير عبدالمحمود عبدالحليم يكتب السر قدور (شافك لقاك أجمل ملاك)

خرطوم سبورت

تداعت هذه الأحرف قبل سنوات ثلات فى رحيل الاستاذ السر قدور الذي تحل ذكراه الثالثة اليوم ٣١ مارس/٢٠٢٥ ووطنا رائعاً يكاديفلت بين أصابعنا….. أعيد نشر تلك الخواطر مع دعواتنا برحمة ومغفرة للفقيد العزيز وأمن وامان لبلادنا الغالية …..

السفير عبد المحمود عبد الحليم يكتب: السر قدور.. (شافك لقاك.. أجمل ملاك)*

قالوا ان البكاء هو الشفاء من الجوى بين الجوانح.. حدثونا عن وسائل استيعاب الفقد loss assimilation وما أسموه بنظرية دورة الحزن، افتوا فيها أن الفجيعة تمر بمراحل خمس هي الـ denial ثم الـ anger فالـ bargaining ومن ثم الـ depression وصولًا لمرحلة الـ acceptance.. لكننا في حالة السر قدور (شربنا دموعنا ماروينا) كما أنبأنا من قبل صديقه سيف الدسوقي، ولا يزال الوجع يتمدد بدواخلنا..

على مثل أبي زينب فلتبك النائحات.. وكذا فليجل الخطب وليفدح الأمر فليس لعين لم يفض ماؤها عذر.. عندما أسرج السر قدور خيله للرحيل تخير ساعات الفجر الأولى فامتطى لدار الخلود ظهر غيمة بيضاء حاملًا إزميله وتراتيل ملونة وبقايا ضحكة مجلجلة ملأت أرجاء الأكوان.

حتى أطل الشهر الكريم لنفجع أننا نعيش حقبة ما بعد السر قدور وأننا لن نحظى تلفازًا هذا الشهر بظهور طلته وطلعته البهية وحضوره الطاغي وإنسانيته الفريدة وإبداعه المتميز ووصفاته الهادفة لترويض زمن عارم، وأننا، ويا للأسف، سوف نصوم هذه المرة من دون رؤية الهلال…

عندما طلب مني راحلنا المقيم الأستاذ السر قدور كتابة مقدمة لكتابه (زمان الناس) الذي تضمن عصارة نادرة من الأفكار والذكريات والخواطر وتجارب السنين في مجالات الفن والثقافة والاجتماع والأدب، قلت له إنه بمثلما أن تقديم الكتاب تشريف أعتز به إلا أنه يشكل أيضًا مغامرة كبرى، إذ كيف بوسع أحد الإحاطة بمنجم لا ينضب وبحر لا ساحل له من العلوم والمدارك.. فالأستاذ السر قدور مشروع إبداعي متكامل، فهو الشاعر والملحن والمغني والمادح والأديب والممثل والكاتب المسرحي والمؤرخ والموثق للتراث، وهو أيضا الصحفي والإعلامي والمفكر السياسي سليل الأسرة المبدعة من الشعراء والفنانين والمادحين.. ومثلما ارتحلت أسرته من الجباراب للشعديناب بعد فيضان ١٩٤٦ فإن جينات ذلك الارتحال ظلت كامنة في نفسه خلال مسيرة حياته العامرة ليس فقط تنقله القصير في خمسينات القرن الماضي في شبابه الباكر من دامر المجذوب إلى عطبرة كل خميس لزيارة مكتبة أولاد دبورة، أو سينما بيرفس أو لأم درمان، بل ارتحالاته في دروب الحياة الأخرى وهو يشب عن الطوق بما في ذلك رحلة استقراره الأخير بمصر والتي كان الوطن فيها أيضًا أقرب إليه من حبل الوريد، وهي الرحلة التي انتهت بمواراته الثرى بمدافن ٦ أكتوبر بالقاهرة في ٣١ مارس ٢٠٢٢م.

ليذكرنا بأن الحياة كلها رحلة قصيرة… لئن همس السر قدور في قصيدة (الشوق والريد) مرددًا (ليكا رسالة) فقد كان طابع رحلة حياته بكاملها هو رسالة التميز والحب والإنسانية…

 

ليكا رسالة

لو روحك يوم تنسى دلالها

نعود أحباب زي ماكنا

في دنيا الحب نلقى الجنة

ياحبيب الروح.. يا أحلى غرام

اسأل قلبك.. برضو بقولك لو كان حنا..

يطول الحديث وسوف يطول عن الأستاذ السر قدور .. وسوف يفقده كثيرًا كل من التقاه، وكل الذين أحبوه للضوء الباهر الطالع منه علمًا ومعرفة دون أن يجدوا فرصة مقابلته!

والحب كاللص لا يدريك موعده

لكنه قلما كالسارق استترا.

ستفقده بالقطع ساحات الأدب والفن والثقافة.. وسوف يترك فراغًا هائلًا في جهة توثيق الأغنية والموسيقى السودانية التي كان محاميها وموثق عقودها وحامل أختام بشاراتها.. سوف يظل برنامج “أغاني وأغاني” صدقة جارية لهذا العملاق.. وسوف تدون محاضر التاريخ دوره بالغ الأهمية وغير المسبوق في ترابط الأجيال والوقوف على تجارب الماضي الثرة والمحتشدة بقيم الخير والجمال.. أدرك حزنك الكبير صديقنا العزيز مصعب الصاوي.. وأحسب أن إرث السر قدور نفسه، وقد جاء يوم شكره، يستحق الإبانة ويستلزم البحث… إن كان السودان من أقصاه إلى أدناه قد توشح بالحزن على رحيل أيقونة الإبداع فإنني لا أستطيع تخيل القاهرة بدون السر قدور… خلال فترة عملي سفيرًا للسودان بالقاهرة أشهد بأن أستاذ السر كان سفارة إبداعية واجتماعية وثقافية وإنسانية مكتملة الأركان.. وأنه كان واسطة عقدنا ومهبط أفئدتنا.. وكان احترامه وتقديره من كافة فئات الشعب المصري الشقيق نموذجيًا.. لا أستطيع تخيل القاهرة بدونه.

لقد وهب السر قدور عمره ونذر نفسه بنجاح لخدمة مشروعه الفني وعزز بتميزه مسيرة تطور الغناء والموسيقى بالسودان على نحو لم نكن ببالغيه دون وجود أمثاله من العباقرة.. وسجلت كافة أغانية نجاحًا وقبولًا كاسحًا، ودونك تلك التي غناها إبراهيم الكاشف والعاقب محمد حسن وصلاح ابن البادية ومحمد ميرغني وكمال ترباس.. بما فيها الأغاني الخفيفة التي ظفر القلع عبد الحفيظ بإحداها مؤخرًا، وهي”عناقيد العنب”…

 

عناقيد العنب.. ياعناقيد العنب

ليه الدلال من غير سبب

المساكين ليها رب.

ويا أبا زينب… كم أحببناك.. وكم سنفتقدك.. لقد منحك محبوك العلامة الكاملة… صداقة وإبداعًا… ومنحناك دعواتنا المتصلة بأن يهبك المولى وافر رحمته وجزيل غفرانه وحسن قبوله… وأبشر .. “شمسك طلعت وأشرق نورها بقت شمسين”… “وخلاك أحلى من القمر”.. أما الحب فقد “بان بلمسة اييد”… ويا أستاذ السر قدور.. لقد عرفك شعبنا “وشافك لقاك…أجمل ملاك”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى