
عصام ابومدينة يكتب
من استهداف الفرد إلى استهداف المؤسسة: دلالات جريمة الأبيض
استفاق المجتمع السوداني على جريمة مروعة أمس الأحد تمثّلت في اغتيال وكيل النيابة الأعلى بمدينة الأبيض، عاصمة ولاية شمال كردفان، وفق ما نقلته وسائل إعلام رسمية. لم يكن هذا الحادث مجرد واقعة عابرة تضاف إلى سجل الجرائم، بل شكّل صدمة قوية هزّت أركان الدولة وزعزعت إحساس المواطنين بالأمان. أن تطال يد الغدر رجلًا في موقعه القضائي، فهذا لا يُقرأ كاستهداف شخصي فحسب، بل كرسالة خطيرة موجهة إلى العدالة ذاتها وإلى هيبة الدولة في صميمها.
مقتل وكيل النيابة الأعلى بالأبيض، التجاني آدم صبي، لم يكن مجرد حادثة جنائية عابرة يمكن أن تمر كما تمر أخبار الجرائم اليومية، بل كان صدمة قوية في مجتمع ظل يفاخر بقدر من السكينة، ويعتمد في تماسكه على قيم الاحترام المتبادل وهيبة المؤسسات. الجريمة بدت وكأنها كسرت حاجزًا نفسيًا ظل يحمي الأبيض من هذا النوع من الأحداث، وهو ما جعل وقعها يتجاوز حدود المدينة ليشغل الرأي العام السوداني بأسره.
في مثل هذه القضايا، لا يكفي أن تُعلن لجان التحقيق، ولا أن تتشكل فرق من الشرطة والمخابرات والمستشارين فقط ، فالمسألة أعمق من ذلك. حين يُقتل مسؤول عدلي رفيع ، فإن الرسالة التي تصل للمجتمع خطيرة: أن القانون ذاته مهدد، وأن من يفترض أن يحمي العدالة يمكن أن يكون هدفًا ليد مجهولة. وهنا لا يعود السؤال محصورًا في “من القاتل؟”، بل يمتد إلى “لماذا الآن؟” و”من المستفيد من اغتيال هيبة المؤسسة العدلية؟”.
الأبيض ليست مدينة غريبة على الأزمات، لكنها ليست أيضًا مكانًا اعتاد على الاغتيالات الغامضة. وهذا ما يجعل الجريمة تحمل طابعًا استثنائياً، أشبه بمحاولة إدخال أسلوب جديد من الترهيب أو كسر الإحساس بالأمن العام. لذلك فإن التعاطي معها يجب ألا يقتصر على مطاردة الجناة، بل يتطلب مقاربة أوسع تنظر إلى البيئة السياسية والاجتماعية والأمنية التي جعلت مثل هذه الجريمة ممكنة.
من حق الشارع أن يعرف الحقيقة كاملة، بلا مواربة أو إخفاء، لأن الصمت أو التباطؤ في كشف الملابسات قد يفتح الباب أمام الشائعات والتأويلات التي لا تزيد الوضع إلا توترًا. كما أن العدالة لا تتحقق فقط بالقصاص من الجناة، بل أيضًا بإعادة بناء الثقة بين المجتمع ومؤسساته العدلية، والتأكيد أن ما حدث لن يتكرر وأن هيبة القانون مصانة.
هذه الجريمة ليست اختبارًا للأجهزة الأمنية فحسب، بل اختبار لإرادة الدولة في وضع العدالة فوق كل اعتبار. فإذا أُدير الملف بالشفافية والجدية التي يستحقها، يمكن أن تتحول الفاجعة إلى لحظة وعي مجتمعي تعيد الاعتبار لسيادة القانون. أما إذا أُهمل أو جرى التعامل معه بمنطق التسويف، فإن الأبيض قد تدخل منعطفًا خطيرًا يُفقدها الكثير من خصوصيتها كمدينة ظلت ملاذًا للسلام والطمأنينة.