مقالات

رشان أوشي تكتب : هندسة الخرائط بالدم!

خرطوم سبورت

 

هندسة الخرائط بالدم!
رشان أوشي

يبدو أن الحرب في السودان قد تجاوزت طورها الأول، ذلك الذي كانت فيه معارك الميدان غاية في ذاتها، لتدخل الآن طورها الثاني، طور كشف النوايا العارية، لم تعد الحرب صراعاً بين الجيش الوطني ومتمردين، بل غدت صراعاً “جيوسياسياً” مفتوحا على الجغرافيا والثروة والسيادة، تتقاطع فيه مصالح القوى الإقليمية والدولية، ويعاد فيه ترسيم الخرائط على وقع البنادق والحرائق.

الإمارات العربية المتحدة تسعى إلى إعادة تشكيل الخريطة السودانية بما يخدم مصالحها الاقتصادية والأمنية، متدثرة بعباءة “الوساطة” و”العمل الإنساني”. غير أن الوقائع على الأرض، من الفاشر إلى كردفان، تفضح ما وراء الأقنعة: مشروع للاستيلاء الممنهج على إقليمي دارفور وكردفان، الغنيين بالذهب والنفط والثروة الحيوانية، عبر أدوات الحرب بالوكالة وتمويل الميليشيات العابرة للحدود.

التحركات الأمريكية الأخيرة لإعادة السودان إلى طاولة المفاوضات، وفتح قنوات تواصل مع القيادة السودانية، كشفت عن مؤشرات لعودة واشنطن إلى الملف السوداني من باب دعم القيادة الشرعية، لا الميليشيات.

هذا المسار أغضب أبوظبي، التي رأت في التقارب السوداني الأمريكي تهديداً مباشراً لنفوذها الميداني في غرب السودان، حيث تُموّل وتُسلح مليشيا “آل دقلو”، وتقدم لها الغطاء السياسي والإعلامي.

وهكذا، اصطدمت المطامع الأمريكية بالمطامع الإماراتية، فتحولت إلى تصعيد ميداني تُرجم في الاجتياح الوحشي لمدينة الفاشر، العاصمة التاريخية لدارفور، وما رافقه من مذابح ضد المدنيين، في مشهد يعيد إلى الأذهان نمط “الهندسة الديمغرافية” الذي شهدته ليبيا وسوريا واليمن.

السيناريو الإماراتي في السودان يسير على خطى النموذج الليبي: دولة منزوعة السيادة في الغرب، يقودها أمير حرب، تحكمها القوة لا المؤسسات، وتديرها شركات أمنية واقتصادية تعمل تحت راية “الاستقرار”.

إنها الدولة الحفترية الجديدة التي تُقام على أنقاض المدن السودانية، لتكون بوابة عبور إلى الموارد السودانية، وممراً آمناً للمصالح الإسرائيلية.

لا يمكن فهم ما يجري دون النظر إلى الخريطة الاقتصادية. فدارفور وكردفان ليستا مجرد إقليمين مضطربين، بل خزائن السودان من الذهب والنفط والثروة الحيوانية. السيطرة عليهما تعني امتلاك مفاتيح السودان الاقتصادية.

ومن هنا، جاء الوعد الإماراتي للرعاة والميليشيات بإنشاء “وطن دائم” لهم في دارفور، كغطاء أيديولوجي لمشروع السيطرة. هذا الحلم المزعوم يتطلب بطبيعة الحال إفراغ الإقليم من سكانه الأصليين، وهو ما تترجمه المذابح الوحشية وعمليات التهجير القسري.

موجات النزوح من كردفان إلى وسط وشمال السودان ليست مجرد هروب من المعارك، بل هي هجرة جماعية من مستقبل مجهول، استشعر فيها المواطنون الخطر على وجودهم ذاته. إنها استجابة فطرية لتحولات كبرى تُرسم في الغرف المغلقة وفي ميدان القتال .

الطور الثاني من الحرب ليس حرباً داخلية فحسب، بل إعادة هندسة لكيان الدولة السودانية وفق مصالح قوى تتنازع النفوذ على أرضها. بين مطرقة الأطماع الأمريكية وسندان المشاريع الإماراتية، يقف السودان كما كان دوما أمام امتحان الوجود ذاته: هل يملك ما يكفي من الوعي السياسي والسيادي ليقاوم التحول إلى ساحة تقاسم مصالح؟.

الجواب لم يُكتب بعد، لكنه سيتحدد في الفاشر وكردفان.

محبتي واحترامي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى