
الشيخ الأمين.. قصة لم ترو بعد..
عثمان ميرغني
التقيت مساء أمس الأول بالشيخ الأمين، في مقر اقامته بمدينة القاهرة.. كانت فرصة للسؤال والاستقصاء حول اقامته خلال فترة الحرب بعرينه في بيت المال أثناء الاحتلال.. رغم المخاطر.. ثم رحلة خروجه بعد دخول الجيش.
لولا أن الشيخ الأمين أكد كل ما رواه بمقاطع فيديو صورها خلال فترة الرعب، لصعب تصديقها.. كل قصة، كل حدث، كل لقاء محفوظ “بالصورة والصوت” وبأفضل جودة.. وهذا في حد ذاته انجاز آخر لا يقل عن شجاعة المواجهة والصمود.
مسيد الشيخ الأمين بأمدرمان معلوم للجميع.. بعد بداية الحرب بأسابيع قليلة اجتاحت قوات الدعم السريع أحياء الملازمين و بيت المال وأبو روف وونوباوي.. ومع تنامي العنف والانتهاكات غادر غالبية السكان بيوتهم ولاذوا بمختلف مواطن النزوح واللجوء.
لكن الشيخ الأمين مع أسرته لم يخرجوا مطلقا.. فتحوا أبواب المسيد على مدار الساعة للإطعام، ثلاث وجبات لا تنقطع، كل واحدة تلاقي الأخرى، من أطيب الطعام.
ومخبز ينتج أفضل أنواع الخبز يعمل بكامل طاقته ليل نهار لضمان أن لا تجوع البطون الخاوية.
لا يقتصر الإطعام على من يأتي باحثا عنه فقط، بل ترسل الوجبات للنساء والشيوخ الذين لا يستطيعون الحضور بأنفسهم لأخذ حصتهم.. ويجوب شباب المسيد الأحياء يسقون العطشى بعد أن انقطعت المياه.
و عيادة تقدم الخدمات الطبية كافة.. والدواء مجانا.. بعض هذه الأدوية لا يتوفر حتى في المدن البعيدة التي لم تدخل في خارطة المعارك العسكرية.
باختصار كان الشيخ الأمين يدير دولة داخل دولة.. محور نشاطه الإنسان، يطعم ويسقي ويعالج ويأوي .. ومجانا لوجه الله.
هذه الصورة الخارجية تخفي تماما ما يدور خلفها.. من مشهدين مرعبين.. الأول أن المسيد بشيخه وأسرة شيخه وحيرانه ومن آوي إليه كانوا في مرمى النيران.. سقطت الدانات قريبا منهم.. وفي مرة أصابت حجرة ابنة الشيخ الطبيبة التي تعمل معه في علاج المرضى.. في لحظة أبوة جارفة طلب الشيخ من ابنته أن تغادر إلى ملاذ آمن.. لكنها رفضت أن تتركه أو تحرم المرضى من جهدها.. و ظلت معه إلى آخر يوم قبل انجلاء الخطر بوصول الجيش.
الوجه الآخر الذي لم تروه الأخبار ولا شاشات الاعلام، يحكي تفاصيل الحصول على المواد الغذائية من أجل صنع الطعام.. في كل يوم كانت هناك قصة مذهلة.. كلما أغلقت المعارك حامية الوطيس منافذ الحصول على الغذاء.. يبتكر أتباع الشيخ منفذا لا يخطر على بال حتى لا يتوقف اطعام بطون لن تقوى على الجوع ولن تصبر لحين انجلاء الأوضاع، ولا تقبل عذرا..
عندما أحكمت المعارك اغلاق كل المنافذ ما كان لدى شباب المسيد من بد سوى عبور النيل ليلا .. وهم يعلمون كم من الأعين المتربصة بكل حركة.. كانت مخاطرة بكل المقاييس، احتملها شباب في يوم كانوا ينعتونهم تهكما بـ(شباب المحاية الببسي.. و الحيران الجكسي)..
كيف كانت شحنات الدواء تصل إلى عيادة المسيد؟ هذه قصة أخرى فاقت كل تصور.. تعبر الشحنات حدود السودان بالطرق الرسمية وتتسلل عبر الصحاري والمنافذ الخفية في شحنات صغيرة لا تلفت الانتباه.. حتى تصل للمرضى في المسيد.
في زخم كل هذا الصنيع المذهل.. كانت تسير في خط مواز حملة كراهية كبرى.. تقف خلفها غرف اعلام مدججة بالأبواق الناعقة كالبوم في الخراب..
ما فعله الشيخ الأمين معجزة بالحسابات العادية، لكنه توفيق بحسابات العلي القدير لا يناله إلا ذو حظ عظيم.
الشيخ الأمين ليس بسياسي ينتظر أن يتحول رصيد صنائع المعروف إلى أصوات شعبية تحمله عبر صندوق الانتخابات – أو غيره- لمقعد سلطة.. ولا هو مستثمر يرجو أن يدفع اليوم ثمن ما يكسب أضعافه غدا.. هو رجل مسخر للخير .. فنال حب الناس.
الشيخ الأمين يستحق جائرة نوبل للسلام..
و ما شهدنا إلا بما علمنا والله خير الشاهدين.
#حديث_المدينة الخميس 24 يوليو 2025