مقالات

د. حسن شايب دنقس يكتب :أبطال لا تعرفهم نشرات الأخبار

خرطوم سبورت

أبطال لا تعرفهم نشرات الأخبار

 

بالرغم من التحديات الجسيمة والمهددات المتصاعدة التي تواجه البلاد والتي ما فتئتُ أتناولها في كتاباتي بصورة مستمرة إلا أنني آثرت هذه المرة أن أسلط الضوء على جانب مضيء وملهم من واقعنا وهو عظمة وبسالة الجندي السوداني في معركة الكرامة وقد تجلت هذه البسالة بأبهى صورها في معركة المدرعات التي أصبحت أنموذجاً حياً لصمود الرجال ومحفزاً قوياً على مواصلة النضال من أجل استعادة الوطن وصيانة سيادته والحفاظ على وحدته.

في قلب العاصمة الخرطوم وفي واحدة من أشرس معارك التاريخ العسكري الحديث بالسودان سطرت ملاحم البطولة في معركة المدرعات معركة الكرامة التي وقف فيها جنود القوات المسلحة وقفة عز لا تنسى وسط أزيز الرصاص ودوي المدافع كانت هناك قصص تروى لا بالحبر إنما بالدماء والتضحيات قصص رجال قرروا أن لا يكونوا إلا حماة لهذا الوطن ولو كلفهم ذلك أرواحهم.

حكى لي أحد أولئك الأبطال الرقيب مهند جنكول الذي يتلقى العلاج الآن في بورتسودان إزاء إصابته في المدرعات أن تلك المعركة لم تكن مجرد مواجهة عسكرية تقليدية فحسب إنما كانت مدرسة حربية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى خاضها الجنود بتكتيك غير مسبوق من المسافة صفر حيث لا مجال للخطأ ولا للرجوع قالها لي بإسلوبه الخاص قدام بس يقول مهند إنهم اخترقوا صفوف العدو ليس بحثاً عن انتصار فحسب بل لينتزعوا ما يمكن أن يعينهم على الصمود من عتاد وذخيرة وحتى الطعام إذ كانت المعركة تخاض في ظل حصار خانق وبيئة قتالية بالغة القسوة يحكي لي جنكول و كلي آذان صاغية أن منطقة جبرة المحاذية لسلاح المدرعات كانت واحدة من النقاط الحامية حيث دارت فيها معارك ضارية بين جنود الجيش ومليشيا الدعم السريع التي كانت تظن أن السيطرة على المدرعات هي مفتاح العاصمة وسقوط الجيش لكن حساباتهم اصطدمت بواقع لم يتخيلوه برجال أقسموا أن لا يمروا مهما كانت التضحيات هناك كان مهند فهو اسم على مسمى و معه آخرون لا تُعد أسماؤهم لكن تُروى مآثرهم واجهوا الموت بصدور عارية وعزيمة لا تلين كل متر في أرض المدرعات شهد دماءهم وكل جدار فيه لا يزال يحمل آثار بأسهم أبطال لا تعرفهم نشرات الأخبار ولا تذكر أسماؤهم في المؤتمرات و لم يكن ذاك همهم.

لم تكن الأسلحة الحديثة ولا كثافة النيران ما حسم المعركة لصالحهم فقد كان الإيمان بعدالة قضيتهم واليقين بأنهم خط الدفاع الأخير عن وطن يتداعى لم يكن لديهم إمداد دائم لكنهم صنعوا من المستحيل ممكناً كانوا في أحيان كثيرة يشتبكون مباشرة مع العدو على الرغم أن تحركهم يكون ليلاً فيأخذون منه ما يسد رمق المقاومة ثم يعودون ليواصلوا المعركة بنفس السلاح الذي واجهوه به.

وفي ظل هذا الصراع تشكلت روح فريدة بين الجنود روح أخوة لا تعرف إلا في الميدان حيث يحتمي الجندي بجسده ليفدي رفيقه ويقتسم معه الخبز القليل والرصاصة الأخيرة كثيرون سقطوا شهداء وتركوا وراءهم حكايات فخر تروى في المجالس وبين الأحياء حكايات عن رجال حملوا عبء الوطن على أكتافهم دون أن يسألوا ماذا بعد؟ و من هذه الحكايات قال لي مهند أنه في إحدى ليالي تحركاتنا في منطقة جبرة خرجنا في مهمة للنيل من العدو لكننا ولطبيعة الظلام والظروف ضللنا الهدف الذي خرجنا من أجله فقررنا الانسحاب والعودة إلى المدرعات لم تمض لحظات على قرارنا حتى شعر بنا العدو ففتح علينا وابلاً كثيفاً من الرصاص احتمينا بأحد المباني ذات الطوابق العالية ودخلنا في اشتباك مباشر مع المليشيا لكن سرعان ما أحكم العدو الطوق حول المبنى الذي كنا بداخله وقطع الطريق الوحيد الذي يمكننا الانسحاب عبره كنا نواجه وضعاً بالغ الصعوبة الذخيرة أوشكت على النفاد ولا نملك أجهزة لاسلكية للتواصل مع القيادة أو طلب الإسناد عندها التفت إليَّ رفيقي صدام وقال لا بد أن نرسل رسالة لإخوتنا في المدرعات لعلهم يهبون لإسنادنا وفي هذا الليل المظلم وبدقة متناهية حدد صدام المكان الذي يُرجح وجود زملائنا فيه هو المبنى الذي يرتكز فيه إخوتنا ثم أطلق طلقات منفصلة من سلاحه إلى أحد الطوابق

فالتقط أحد الإخوة الإشارة وقال لرفاقه العدو لا يطلق طلقات منفصلة كهذه وإن عرف مكاننا لهد المبنى بمن فيه لا بد أن إخوتنا في مأزق فبسرعة وذكاء أطلقوا ثلاث طلقات في الهواء رد عليها صدام بالطريقة نفسها فعرفوا أننا نستنجد بهم.

ما هي إلا لحظات حتى بدأوا إطلاق الرصاص في الهواء ونحن نردّ عليهم بالمثل لتحديد مكاننا و في نفس اللحظة نحن في اشتباكات مع العدو فأرسل صدام إشارات ضوئية عبر الزناد حتى حددوا موقعنا بدقة فشنوا هجوماً على العدو وأشغلوه عنا ما أتاح لنا فرصة الانسحاب الآمن من المبنى

ومنذ تلك الليلة اتفقنا فيما بيننا على اعتماد نغمة معينة لإطلاق الرصاص في الهواء لتكون رمزاً موحداً لنداء الاستغاثة في مثل هذه المواقف.

مهند جنكول وصحبه ليسوا سوى نماذج لقوة الإرادة السودانية حين تتجسد في الميدان وجوه شابة تحمل على ملامحها آثار التعب لكن في عيونها وميض النصر لم يبحثوا عن شهرة ولم يلههم البريق السياسي فقد اختاروا الخنادق وأصوات المدافع على مقاعد الانتظار والحياد كل واحد منهم يحمل على كتفه قصة صمود وجسده يحكي تفاصيل المعركة من رصاصة في الكتف إلى شظية في الساق إلى ليال قضوها دون نوم يأكلون القليل ويتقاسمون الخبز اليابس كما يتقاسمون الذخيرة فقد كانوا يعيشون على الأمل.

معركة المدرعات كانت أكثر من مجرد اشتباك مسلح كانت اختباراً لمعدن الرجال ومنارة لتاريخ سيكتب يوماً أن في السودان وفي قلب الخرطوم وقف جنود قالوا لا حين قال غيرهم نعم ورفضوا الاستسلام حين ظنه العدو محتماً وسيظل صدى بطولاتهم يردد في كل زمان ومكان لأن من يكتب التاريخ الحقيقي هم من يحملون البنادق دفاعاً عن الأرض والعرض لا من يدبجون الكلمات من بعيد.

 

دكتور/حسن شايب دنقس

مدير مركز العاصمة للدراسات السياسية و الاستراتيجية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى