مقالات

عثمان ميرغني يكتب:العودة إلى الماضي أم المستقبل؟

خرطوم سبورت

العودة إلى الماضي أم المستقبل؟

عثمان ميرغني

شاهدت لقطات مصورة من (صينية القندول) في السوق العربي، قلب الخرطوم. بدأت الحياة الطبيعية تدب في أوصال المدينة الجريحة. بعض المقاهي تمد مقاعدها على جانبي الطريق، وشباب يستمتعون بعبق الوطن في جلسات متخمة بالحنين. ورغم أن مثل هذه المشاهد تساهم في درء الآثار النفسية للحرب، إلا أنها تكشف الوجه الآخر الذي حذرنا منه: إبقاء الأوضاع على ما كانت عليه قبل الحرب، وكأن الثمن الباهظ الذي دفعه شعب السودان من دمه وماله وممتلكاته لم ولن يغير من الواقع شيئًا.

 

الحرب شر يجب تجنبه وغلق صفحته بأسرع ما يمكن. لكن في طيات المحن تبرز بعض النِعم، أولها فرصة التغيير الكبير الذي قد يتطلب عقودًا في الوضع العادي. العاصمة الخرطوم لم تكن مدينة بالمعنى الحضري العصري، بل كانت أقل من قرية في بعض الدول المتواضعة. أفخر أحياء الخرطوم لا تزال بلا صرف صحي، حيث تضخ الفضلات في جوف الأرض، فتزيد معدلات التلوث وإتلاف البيئة. الشوارع معظمها ترابية ومظلمة، وتكاد تغلق تمامًا في موسم الأمطار. والأمراض الوبائية، مثل الملاريا، تنهش عافية إنسان السودان.

وشاء الله أن يتسع دمار الحرب في مساحات كبيرة. وبالضرورة، مع دعوة المواطنين للعودة إلى بيوتهم، تحتاج البلاد إلى “مشروع مارشال” لبناء عاصمة جديدة تختلف كليًا عن تلك التي كانت قبل 15 أبريل 2023. لكن لا يبدو في الأفق أن شيئًا تغير، ولا حتى الطموح لحال أفضل، بل هناك احتفاء باستعادة الماضي بأحزانه وبؤسه وشقائه.

 

كتبت كثيرًا أننا بحاجة إلى منهج إدارة وعقلية تستوعب متطلبات المرحلة. الأمر لا يتعلق بشخص الوالي الأستاذ أحمد عثمان حمزة، بل بطريقة إدارة مرحلة البناء التي تختلف كليًا عن منهج إدارة يوميات الواقع الراهن. تحدث الوالي لقناة بي بي سي وناشد المواطنين بالعودة، وهي دعوة مهمة لأن وجود المواطنين في مدنهم وقراهم يساهم في تسريع عجلة البناء. لكن في المقابل، هناك مشروعات ضخمة لا يمكن أن تنتظر، بل يجب أن تبدأ فورًا الآن، لأنها تضمن عودة المواطن إلى المستقبل لا إلى الماضي البائس.

سأضرب بعض الأمثلة: من أهم متطلبات عاصمة حضارية أسواق حديثة تضاهي ما هو موجود في الدول المحترمة في إقليمينا العربي والإفريقي. لو راجع الوالي المخطط الهيكلي لولاية الخرطوم، الذي أنفقت فيه الولاية مالًا وجهدًا كبيرًا، لوجد خارطة واضحة المعالم للأسواق الحضرية التي يجب أن تشيد في المدن الثلاث. ولأن المخطط مضى عليه سنوات طويلة، يمكن تطوير الخطط الواردة فيه.

وبالطبع، سيطرح السؤال التقليدي عن التمويل: كيف نشيد هذه الأسواق الحديثة في ظل اقتصاد خرج لتوه من مستنقع الحرب الضروس؟ ولعمري، هذا أغبى سؤال في هذا العصر الذي تغيرت فيه أنماط التنمية الحضرية وأساليب التمويل، خاصة العقاري. إنشاء أسواق حديثة عمل لن يستغرق سوى بضعة أشهر في خطة مرحلية دقيقة يتولاها القطاع الخاص، ويحقق بها أكثر من هدف. علاوة على التنمية الحضرية، فإنها تفتح فرص عمل كبيرة لمئات الآلاف من الشباب الباحثين عن العمل، مما يرفع من موارد المواطنين ويحارب الجريمة أيضًا.

لا أرغب في الإطالة لضيق المساحة، لكن عودة الماضي وتسلله من خلف أبواب العودة إلى المدن السودانية خطر جديد يهدد الدولة.

#حديث_المدينة الأربعاء 9 يوليو 2025

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى