
جريمة شرف..
عثمان ميرغني
كنت متجولا بسيارتي في ربوع بلادنا الحبيبة.. جذبت نظري “لافتة” على قارعة الطريق.. طلبت من السائق التوقف.. ووقفت بجانب اللافتة ليلتقط لي صورة تذكارية..
حال وصولي البيت.. نشرت صورتي في الفيسبوك.. بجوار اللافتة الجميلة.. وعلى قول أخواننا المصريين(عينك ما تشوف إلا النور)…
في الحال (اندلعت ثورة منك خانها الجلد) كما قال شاعرنا العباسي في قصيدته الشهيرة التي غناها الفنان الرائع الطيب عبدالله وعنوانها “فتاتي”.
كثيرون.. اعتبروا التقاطي صورة مع تلك اللافتة فيها تلميح واشارة خبيئة..ضرب من التهكم.. و محاولة للاستخفاف.. بمحتوى اللافتة..
و لم يكن ذلك قصدي.. كل الذي دار في ذهني هو توثيق هذا المرور في هذا الشارع في تلك المنطقة المهمة..
طبعا.. الآن لن أذكر ماهو مكتوب في اللافتة.. حتى لا أستعيد الغضبة الجماهيرية.. وأرجو أن لا يتكبد أحد القراء مشقة البحث عنها في الفيسبوك و اعادة نشرها.
عندما كنت في صحيفة “الرأي العام”.. كتبت في عمود “حديث المدينة” عن (مدينة!) سودانية مشهورة جدا.. كنت أرى أنها وباسمها الفاخر وتاريخها وموقعها الرائع تستحق ان تكون أفضل عن ماهي عليه الآن.. فالوقع هي مجرد قرية فقيرة متخلفة.
في اليوم التالي وأنا في مكتبي.. سمعت جلبة كبرى في الاستقبال.. و شد وجذب بين الموظف ورجل يصر على الدخول.. في الحال أدركت أنني في مواجهة “حالة طواريء” قصوى.. و أن المطلوب أعلى درجات الذكاء في التعامل مع الموقف.
قمت من مكتبي واتجهت نحو الاستقبال .. وفتحت كلتا ذراعي وأنا أتجه بسرعة نحو الرجل.. الذي كان يحمل عصا غليظة في يده اليمني.. وتظاهرت كأني أعرفه منذ فترة وأنا أردد عبارات دهشتي من كوننا لم نلتق كل هذه السنوات الطويلة..
الرجل داهمته محبتي وترحابي فاحتار بعض الوقت..
احتضنته بحرارة وأنا أسأله .. أين كان كل هذه المدة.. وهو يحدق في وجهي باستغراب محاولا عصر ذاكرته.. ولسان حاله يقول (امكن أنا الماجيت..).
طلبت له كوب شاي وأخذته من يده إلى داخل مكتبي.. الحيرة والدهشة كبلته تماما.. وأنا أكررعبارات الترحاب والسرور بلقائه.
جلست في مكتبي وهو في المقعد أمامي ينظر إلى وجهي مذهولا ومحتارا.. في صمت لم ينطق بكلمة..
وصل كوب الشاي.. وضعوه أمامه.. مد يده وارتشف منه وهو لا يزال ينظر في وجهي ثم أخيرا نطق وكأنه يحادث نفسه..
( طيب ما هو إنت ود حلال..)!!
هنا أدركت أنني نجحت في كسر الموجة العاتية.. وأنه ألقى سلاحه..
فقلت له متهكما.
( وفي واحد قال ليك أنا ما ود حلال..)..
شرح لي غضبه مما كتبته عن مدينته.. وأن كل مواطني المدينة أيضا غاضبون .. وأنه جاء إلى مكتبي لتصفية فاتورة الحساب بـ(العكاز) الذي يحمله.
أوضحت له وجهة نظري وأنني أدافع عن المدينة .. و أطالب بأن تكون في وضع أفضل مما هي عليه.. لأنها بتاريخها وموقعها وأهلها تستحق أكثر.
خلاصة القصة الرجل تحول إلى صديق يزورني بين الفينة والأخرى..
صحيفة “التيار” نشرت تحقيقا صحفيا له طابع اجتماعي عن منطقة ذات سمت ريفي..
في اليوم التالي شاهدت من مكتبي – في كاميرا المراقبة الخارجية- منظرا مفزعا ..شاحنة بها عدد كبير من الرجال.. تقف قريبا من بوابة الصحيفة .. يبدو أنهم ترددوا في النزول ومحاولة الدحول لأنه تصادف أن الشرطة مدججة بالأسلحة النارية كانت تحرس الصحيفة بسيارتين بهما حوالي عشرة.. وجود الشرطة كان له علاقة بحادثة أخرى..مع جهة أخرى..
مصدر الغضبة بسبب أن التحقيق الصحفي فيه ما رأوا أنه سخرية من نساء تلك المنطقة.
وغيرها كثير من القصص الدرامية.. كلها ناتجة من قابلية عظمى لـ”الاستفزاز” لأي ما قد يفهم منه تقليل من قرية أو مدينة أو منطقة .. والأسوأ أن تكون قبيلة..
قد يظن البعض أن ذلك يبرهن على ولاء و حرص و كرامة.. وغيرة..
لكني أراه غير ذلك تماما..
مثل هذه الروح تكرس التخلف والفقر ..
المدن السودانية بما فيها الخرطوم العاصمة تنتحل صفة مدن.. ليس فيها من صفات المدن غير اسمها.. مهما كان أهلها اثرياء.
ماهو أكثر الأحياء رقيا في العاصمة الخرطوم؟
هل زرته في موسم الأمطار بعد “المطرة” الثانية؟
هل فيه صرف صحي؟ هل شوارعه مسفلتة؟ هل مضاءة؟
وفي الحقيقة.. الخرطوم قرية بائسة .. فقيرة.. متخلفة.. تدعي زورا وبهتانا انها مدينة..
ومع ذلك .. يكفي أن تشير لاحد أحيائها بالاسم.. لتعرف (من طفا النور).
لكل هذا.. لا تقولوا (اعادة اعمار).. فلم يكن هناك ما يستحق الاعادة.. بل قولوا (بناء الوطن)..
#حديث_المدينة السبت 12 يوليو 2025