
لماذا أحد العُمَرين؟
عثمان ميرغني
في الأثر: (اللهم أعز الإسلام بأحد العُمَرَين).
لماذا ليس بكلا العُمَرَين؟
لماذا “عُمر” واحد، طالما أن الله سبحانه وتعالى يهدي من يشاء وقادر على أن يجمع بينهما؟
الحساب العددي يجعل مصدر القوة في العدد، وليس في الفكرة.
وكان الأجدى أن يُذكر قائمة بأشراف قريش وقياداتها، ويُطلب ضمهم إلى الدين الجديد، طالما أن الدعاء مستجاب.
لكن الأمر ليس بحساب “فكر القوة”، بل بـ”قوة الفكر”.
اختيار العُمَرَين لم يكن لأنهما الأشد قوة مادية أو عضلية، بل لأنهما كانا الأكثر عداءً للفكرة.
هما رجلان.. لكن الفكرة واحدة.. ضد الإسلام.
فكرة واحدة في رجلين.
فإذا ما انحاز أحدهما، فإنه يُخلخل الفكرة التي غادرها، ويمنح قوة إعلامية و حجة ومنطق للفكرة الجديدة.
الرسول صلى الله عليه وسلم أرسى معالم فكرٍ عماده الحرية والاستقامة.
الاستقامة تعني اتساق الفكر والقول والعمل في خط مستقيم واحد.
)الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا( [فصلت: 30]، ربطوا الفكرة بالقول والعمل في خط مستقيم واحد متسق ومتناسق.
و الحرية تعني : حرية الاعتقاد، المنطق والاقناع، وليس القهر والاخضاع.
“أحد العمرين”، لأنه يقصد وسيلة للاقناع. لا القهر والاخضاع.
فـ “عمر بن الخطاب” و الآخر “عمرو بن هشام” الملقب بأبي جهل. لم يكونا مجرد عدوين لدودين، يتمتعان بالسلطة والتسلط فحسب، بل كانا متطرفين في مواجهة الفكرة الجديدة ودحض وجودها فكريا.
هما خط فكري واحد مجاهر بعداوة مبدئية.
المطلوب كسر هذا الخط الفكري المعارض، فكريا لا عدديا، ليس من باب الانتصار الذاتي، بل لصالح الاقناع والاقتناع والانتشار والتأثير على الرأي العام مجملا.
العُمَران هما أشد الأعداء. لكن الرسول المعلم صلى الله عليه وسلم ، لم ينظر للعداء والتشفي من العدو، بل للمكاسب الاستراتيجية والأثر المستمر على الفكرة. تجاوز الذات الشخصية من أجل الفكرة السامية.
لو انبنت الفكرة على العداوة أو نزوة الانتقام، لكان الأوجب أن يكون الدعاء: (اللهم اخسف الأرض بكلا العُمَرَين).
عندما استأذن جبريل النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يُطبق على كفار مكة الأخشبين – وهما جبلا مكة – رفض الرسول المعلم صلى الله عليه وسلم هذا المبدأ. لم ينظر إلى حاله وهو منهك، مطارد، ومحارب، بل نظر إلى أفق استراتيجي بعيد، يتجاوز غبن النفس ونزوة الانتقام، وقال: (لا، بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئًا).
عندما يتسع النظر، وتكون الفكرة هي الهدف وليست وسيلة لإثبات الذات، فإن الغاية تسمو عن نوازع النفس الأمارة بالسوء.
دخل أعرابي مسجد الرسول المعلم صلى الله عليه وسلم، وغلبته حاجته البشرية الطبيعية للتبول، فانتحى ركنًا داخل المسجد وبدأ يتبول.
هاج الصحابة وماجوا وثاروا غضبًا، وأرادوا أن يضربوه.
نهاهم الرسول المعلم صلى الله عليه وسلم، بل قال: (دعوه ولا تقطعوا عليه بوله، ثم أريقوا على بوله ذنوبًا من ماء، فإنما بُعثتم ميسرين ولم تُبعثوا معسرين).
ثم شرح للأعرابي طهارة المكان وأنه مقام للصلاة والذكر، فقال الأعرابي:
(اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا).
قوام الفكرة مبني على الارتقاء بالنفس الإنسانية، مهما كانت منحطة أو موغلة في الشر.
قوة الفكرة، لا فكر القوة.
(يا خير من جاء الوجود مبشرًا.. بالحق والعدل الذي لا يناء) [من قصيدة أحمد شوقي].
#حديث_المدينة الإثنين 25 أغسطس 2025