
حتى تستيقظ الخرطوم!
رشان أوشي
سيادة الفريق إبراهيم جابر، عضو مجلس السيادة الانتقالي وربان سفينة إعادة الإعمار.
قبل وقت قصير، كانت الخرطوم أرض عمليات عسكرية، ومسرحاً لواحدة من أضخم موجات النهب والتخريب في تاريخ الحروب. اليوم، عادت الخدمات الأساسية، كهرباء ومياه، بنسبة تقارب 60%، واستقر الوضع الأمني بدرجة مقدرة، وبدأ الناس يتدفقون عائدين إلى ديارهم.
ما تحقق خلال فترة وجيزة فاق توقعات كثيرين. ففي بلد أنهكته الحرب، يكفي أحياناً أن تعود الدولة لتؤدي وظيفتها البسيطة: تقديم الخدمات، وحماية المواطن، وأن تقول للناس إنها ما زالت هنا. بهذا المعنى، فإن ما جرى هو استعادة للثقة قبل أن يكون استعادة للخدمات.
لكن الصورة لم تكتمل بعد.
فخلف هذا المشهد الإيجابي، يقف نحو 35 ألف عامل عند بوابة الانتظار؛ لا ينقصهم الحماس ولا الخبرة، بل تنتظرهم ماكينات صامتة في المنطقة الصناعية بحري. هؤلاء أثقلهم النزوح واللجوء، ولا يطلبون سوى ما يعيدهم إلى بيوتهم بكرامة: سبل الرزق.
المفارقة أن تشغيل هذه المصانع لا يحتاج إلى معجزة. فقد قدرت الدولة أن إعادة تأهيل محطة الكهرباء اللازمة للمنطقة الصناعية تتطلب نحو خمسة ملايين دولار فقط. رقمٌ يبدو متواضع، بل زهيد، إذا ما قورن بما يُهدر سنوياً على استيراد سلع غذائية كان يمكن إنتاجها محلياً، وبما يُستنزف يومياً من العملة الصعبة دون عائد تنموي حقيقي.
خمسة ملايين دولار قادرة على إعادة تشغيل عشرات المصانع، وفتح أبواب الرزق لآلاف الأسر، وتقليص فاتورة الاستيراد، وتحويل الاقتصاد من وضع الاستهلاك القسري إلى الإنتاج الممكن. هذا المبلغ لا يُشكل عبئاً جديداً على الدولة، بل هو استثمار مباشر في الاقتصاد الحقيقي، وفي استقرار اجتماعي لا يتحقق إلا بالعمل.
عودة الكهرباء إلى المصانع لا تعني فقط كبح الطلب على الدولار وتخفيف الضغط على الميزان التجاري؛ بل تعني أيضاً إعادة الاعتبار لقيمة الإنتاج، وسحب آلاف الناس من هامش البطالة والنزوح، وإعادتهم إلى قلب الحياة الاقتصادية.
حتى تستيقظ الخرطوم، فإن ما أنجزته لجنة إعمار العاصمة خطوة كبيرة تُحسب لها، لكنها ليست السطر الأخير. التحدي القادم أعمق: الانتقال من إعادة الحياة إلى إعادة الاقتصاد، ومن ترميم المدينة إلى ترميم العلاقة بين العمل والكرامة.
محبتي واحترامي






