
للشدائد تدخر الرجال .. ملحمة الشهادة الابتدائية القاهرة
بقلم / عباس الخديوي
حينما تشتد المحن وتعصف الأزمات، يبرز أولئك الذين يحتفظ بهم الزمن لأداء أعظم المهام، فهُم لا يُقاسون بكثرة الكلام أو بالمظاهر، بل بالأفعال عند المواقف الصعبة. ومعدنهم لا يُعرف في الرخاء بل في وقت العسرة.
في تاريخ الأمم، لا تُقاس الملاحم فقط بعدد من حملوا السلاح، بل بعدد من حملوا الرسالة.
وفي زمن يُختبر فيه انتماء الإنسان لوطنه في ساحات المسؤولية، يبرز رجالٌ في صمتهم عظمة، وفي أفعالهم كرامة، وفي صبرهم ملحمة كاملة الأركان.
ومن بين هؤلاء العظماء، يسطع اسم الدكتور عبد المحمود النور، مدير مدرسة الصداقة السودانية بالقاهرة، والقائد المسؤول عن تنظيم امتحانات الشهادة الابتدائية السودانية فيها – كمركز خارجي، في واحدة من أرقى صور الوطنية والإدارة والتربوية الميدانية.
لقد كانت ملحمة الشهادة الابتدائية، التي قادها هذا الرجل، حدثًا تربويًا مركزيًا لا يُقارن بالروتين الإداري، بل يُقاس بموازين السيادة الوطنية خارج أرض الوطن. إذ لم يكن الإشراف على امتحانات أبناء الجالية السودانية في القاهرة والمهجرين بسبب الحرب عملاً وظيفيًا فقط، بل كان واجبًا وطنيًا ثقيلًا بكل ما تعنيه الكلمة.
كان عليه أن يجمع بين دقة الإدارة، وعدالة التقييم، ورحابة الصدر، وسط ضغوط نفسية ولوجستية هائلة، تتقاطع فيها المسؤوليات التربوية مع مقتضيات السيادة السودانية التعليمية في الخارج.
ففي كل لحظة من لحظات الإعداد، والتجهيز، والمتابعة، كان الدكتور عبد المحمود النور يخوض معركة صامتة:
– معركة ضد الارتجال في بيئة الغربة،
– معركة من أجل أن تكون الامتحانات في مصر بنفس المعايير والانضباط الذي تُدار به داخل السودان،
– معركة من أجل حفظ كرامة الجالية السودانية، ومكانة التعليم السوداني أمام المجتمع المصري والدولي.
لقد واجه التحديات بجسارة، من ضيق الموارد إلى اتساع المهام، من تنوّع خلفيات الطلاب إلى تفاوت البنية الإدارية، لكنه لم يتراجع، بل أدار كل ذلك بعقل القائد، وقلب المربي، وروح الوطني، ليُخرج العمل في أبهى صوره، وكأن السودان بكامل مؤسساته حاضرٌ في قلب القاهرة.
ولذلك، فإن ما قام به الدكتور عبد المحمود النور لا يُعد مجرد إنجاز إداري، بل هو ملحمة تربوية خارج الوطن، لا تقلّ عن ملحمة الكرامة داخل السودان، لأن كلتا الملحمتين هدفهما واحد: رفع راية السودان عالية في الداخل والخارج، والدفاع عن سيادته وكرامة شعبه بكل الوسائل الممكنة، ومنها التعليم.
إننا إذ نحيي هذا الرجل اليوم، فإنما نحيي رمزًا من رموز السودان ، ونقف إجلالًا لقائدٍ لم يحتج إلى سلاح ولا ميكروفون، بل قاد معركته بورقة امتحان، وقائمة حضور، وميزان عدالة تربوية، وكلمة صدق في قلب المهمة
فتحية تقدير وإجلال للدكتور عبد المحمود النور، قائد ملحمة الشهادة الابتدائية السودانية بقاهرة المعز، عنوان الصبر، والهيبة، والمسؤولية.
حين يُذكر الوفاء للمسؤولية، وتُسرد سِيَر الرجال الذين أدّوا الأمانة في صمتٍ وشرف، فإن اسم الدكتور عبد المحمود النور يفرض نفسه حضورًا وهيبة.
ليس لأنه اعتلى منصبًا، ولا لأنه طلب شهرةً أو رفعة، بل لأنه آمن برسالة التربية، ومضى فيها مؤمنًا بأن التعليم ليس وظيفة تؤدى، بل رسالة تُحمَل، وعهدٌ لا يُخان.
لقد عرفناه رجلَ مبدأ، لا يُساوم على القيم التربوية، ووجهًا مشرقًا من وجوه السودان في الداخل و الخارج، عرفناه منذ النشاط الطالبي مديراً وعرفناه وزيراً للتربية ولاية الخرطوم وعرفناه مديراً لمدرسة الصداقة في ليبيا وفي مصر بقاهرة المعز حيث قاد بحكمة وثبات مركز الشهادة الابتدائية السودانية بالقاهرة، في لحظة فارقة تتطلب الحزم والعدل معًا، وتتطلب أن يكون المسؤول رمزًا للثقة، وضمانًا للشفافية، وصورةً حقيقية لمكانة السودان في مجال التعليم.
إنه لم يكن يدير امتحانًا فحسب، بل كان يُدير أمل أسرٍ سودانية، تطلعت إلى أن ترى أبناءها يعبرون المرحلة الأولى من سلم المستقبل. فكان حريصًا على تكافؤ الفرص، وانضباط الأداء، وكرامة الطالب السوداني في الغربة، كما لو أن كل طالب هو ابن له، وكل امتحان شهادة على أمانته.
لقد جسّد الدكتور عبد المحمود النور المعنى العميق لقولهم:”الرجال مواقف”،
فمواقفه تشهد له، وأخلاقه تسبقه، وهدوؤه الذي يغلّفه الوقار ليس إلا عنوانًا لصلابة داخلية، وثباتٍ لا يضطرب أمام العواصف.
فهو من أولئك القلة الذين لا يرفعون أصواتهم، بل يرفعون مستوى العمل،
ولا يتحدثون عن الإنجاز، بل يدعون النتائج تتحدث عنهم.
وختامًا…
فكلمة في حق هذا الرجل لا تفيه قدره، ولكنها واجبة، من باب العرفان لأهل العطاء.
فشكرًا له، على ما قدم، وعلى ما يزال يقدمه، وشكرًا له لأنه جعل من موقعه جسرًا للنجاح، ومن مسؤوليته مظلة عدل، ومن صمته عنوان وقار.
“جزاه الله عن أبناء السودان خير الجزاء، وأثابه على صدقه، وعلمه، وسعيه، بما يليق بعمل الصادقين.”