مقالات

عثمان ميرغني يكتب: “الطلاق مرتان”.. هل يمكن تصفير العداد؟

خرطوم سبورت

“الطلاق مرتان”.. هل يمكن تصفير العداد؟

عثمان ميرغني

الإسلام دين عالمي ممتد مع المكان والزمان.

لا يقتصر على فترة زمانية أو مكانية فهمًا أو تشريعًا.

اجتهادات العلماء في الحقب التاريخية المختلفة تظل محفوفة بظرفها الزمني والمكاني والإنساني.

ونعيش اليوم في عالم مختلف كليًا، ليس عن الماضي البعيد، بل حتى عن عالم كان قريبًا قبل أقل من ربع قرن في القرن العشرين.

التطور الهائل في العلوم والتكنولوجيا والحياة صنع كونًا إنسانيًا جديدًا.

والإسلام يستوعب كل ذلك نصًا وروحًا. لنأخذ مثالًا لما يجب أن يتطور مع تقدم الفهم والحياة.

معلوم في الحياة المجتمعية أن (الطلاق مرتان)، فإذا ما أوقع الزوج الطلقة الثالثة، فإنها تصنع مسارًا جديدًا في الحياة الاجتماعية، فتقف حاجزًا أمام تصحيح الوضع والعودة إلى مربع الأسرة. ويتوجب إذا رأى الزوج أنه أخطأ أن ينتظر محاسن الصدف – التي قد لا تحدث إطلاقًا – أن تتزوج طليقته برجل آخر، ثم يشاء الله أن تحدث خلافات تؤدي إلى فشل الزواج الجديد، فتنفصل، ويصبح ممكنًا للزوج الأول العودة إلى مملكته، أو ملكته.

السؤال الذي ينشأ وفق منظور غايات الإسلام من نشأة الأسرة وتكوينها والحرص على سلامة استمرارها في أفضل بيئة: هل هناك قيد زمني لحساب “الطلاق مرتان”؟

لنأخذ مثالًا عمليًا:

عروسان تزوجا حديثًا، ضغوط الحياة وقلة الخبرة والتجربة دعت الزوج في لحظة غضب إلى التهور وإيقاع الطلاق الأول.

ثم تراجع عنه وعادت المياه إلى مجاريها. لم يمضِ زمن طويل، ثلاثة أشهر مثلًا، ففي لحظة طيش أخرى أوقع الطلاق الثاني.

هنا انتبه لخطورة البطاقة الأخيرة، فـ”الطلاق مرتان”، فأمسك انفعالاته، وساعد في ذلك إنجابهما للطفل الأول، الذي ضخ رحيقًا جديدًا في شرايين الأسرة وعزز من تماسكها.

ومضت سفينة الحياة تمخر عباب البحر بأمواجه وسكونه، مع المزيد من الأبناء والبنات، وكبرت الأسرة. بعد عشرين عامًا كان الواقع مختلفًا تمامًا في البيت الذي تهدده البطاقة الثالثة الأخيرة.

ثم في لحظة غضب أعمى وانفعال طاغٍ أوقع الرجل الطلاق الثالث.

هنا صدر حكم الإعدام على الأسرة السعيدة. البنات والأبناء سيتفرق شملهم بين أمهم وأبيهم،

ولا سبيل لإصلاح الخطأ الطائش إلا بقدر يحيل الزوجة إلى عصمة رجل آخر، ثم قدر آخر يوقع الخصام بينهما لتحظى بفرصة العودة إلى زوجها الأول وإصلاح حال الأسرة المكسورة، إلا إذا احتالا على الأمر بزواج صوري هو في حد ذاته جريمة أخرى.

هل يعقل أن يأمر الإسلام بإعدام بيت وأسرة لمجرد حالة غضب طائشة جاءت بعد عشرين سنة من بطاقة الطلاق الثاني؟

أليس هناك قيد زمني لـ(الطلاق مرتان) يُصَفِّر العداد ويجعل الحساب يبدأ من جديد عندما يثبت الزوجان استقرارهما ويتغير الواقع حولهما بإنتاج مشترك من الذرية؟

لنرجع إلى النصوص.

القرآن يقول: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ۖ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) في حيز الطلاق الأول، ثم الثاني، إما حياة مشتركة بالمعروف، أو انفصال هادئ. هنا لا خلاف في الرأي.

لكن إذا حدث الطلاق الثالث، هنا يأتي النص المكمل: (فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ۖ) يصبح السؤال: هل الطلاقات الثلاث محسوبة على المطلق في سجل الزوجين مدى الحياة، أم أن “عداد” الطلاق قابل للتصفير ليعود حساب الطلاق من البداية بعد فترة زمنية أو عمل معين يغير واقع الحال والظروف؟

الآية استهلت النص المقيد للطلاق الثالث بحرف “ف” الفاء: (فَإِن طَلَّقَهَا).

حرف “ف” الفاء: حرف عطف يدل على “الترتيب” و”التتابع”، بمعنى أن الطلاق الثالث جاء في وقت قصير من الثاني ودون فاصل ظرفي بينهما، أي لم تتغير الظروف التي تحيط بالفعل.

ولو كانت الآية (وَإِن طَلَّقَهَا)، لأصبح الارتباط مطلقًا لا علاقة له بالترتيب أو التتابع. كلمة (فَإِن طَلَّقَهَا) في سياق الآية تعني أن الطلاق الثالث جاء سريعًا في فاصل زمني قصير يدل على استهتار أو استسهال الزوج للطلاق، وليس بعد سنوات طويلة تغيرت فيها كثير من الظروف المحيطة بالأسرة، أنجبت ذرية وتوغلت في تفاصيل الحياة المشتركة.

الحاجز الزمني والظرفي يجعل الطلاق الثالث مرتبطًا بقيد زمني محدد، وظروف بعينها. فيصبح السؤال: ما الزمن الذي يلغي الطلاقين الأول والثاني ويبدأ عدًا جديدًا، أي يُصَفِّر عداد الطلاق؟ هل هو سنة، سنتان، ثلاث؟ وما هي الظروف التي تُصَفِّر عداد الطلاق؟ هل هي وجود ذرية؟ أم ارتباطات أخرى اجتماعية نشأت بحكم استمرار الزواج؟ كأن تنشأ زيجة أخرى في محيط القرابة الأقرب نتيجة استمرار الزواج، أو شراكة في تجارة أو عمل أو غير ذلك.

في كل الأحوال، إلزامية الترتيب والتتابع بين الطلاق الثاني والثالث تعني أن شرط الزواج برجل آخر يسقط تلقائيًا إذا كان هناك فارق زمني أو ظرفي محدد بين الطلاق الثاني والثالث.

ما يدلل على صحة ما ذهبت إليه أن الإسلام ينظر إلى الغايات من الأحكام. وعندما أباح الطلاق، لم يفعل ذلك إلا لإصلاح حال أسرة مزقتها الخلافات والخصومات، فجعل مخرجًا يحافظ على المجتمع (تسريح بإحسان). ولا يعقل أن يسمح الإسلام بهدم بيت استمرت فيه الحياة سنوات طويلة، أنتجت الذرية وزاد العدد، فيأمر بإعدام الأسرة كلها لمجرد ربط كلمة طائشة اليوم بأخرى كانت قبل سنوات طويلة.

من الحكمة تطوير تشريعات الأسرة لتستوعب الغايات مع النصوص.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى