
السودان فاعلاً لا مفعولاً به
انتقلت حرب الكرامة في السودان إلى مستوى أكثر تعقيداً من حيث الأدوات والأساليب ما يعكس تصعيداً تقنياً يعيد رسم ملامح المعركة بشكل واضح فالمسيرات التي أصابت أهدافاً استراتيجية في ولايات الشمالية ونهر النيل وشمال كردفان والفاشر ثم امتدت بالأمس إلى كسلا واليوم إلى بورتسودان العاصمة الإدارية المؤقتة يبرز حجم الخطر الذي يتهدد عمق البلاد من حيث السيادة والردع والقدرة على حماية المراكز الحيوية و رغم وضوح أصابع الاتهام فإن النقاش العام ظل مشغولاً بالجهة التي تطلق هذه الطائرات ومن أي نقطة في وقت بات من المعروف أن مليشيا الدعم السريع لا تمتلك القدرات الفنية و التقنية لتشغيلها بشكل مستقل ما يؤكد أن المتهم الأول هو من يطلقها غير أن التركيز في هذا الاتجاه لا يجب أن ينسينا التحدي الحقيقي الذي يواجه البلاد الآن هو هشاشة الغطاء الجوي الوطني وضعف البنية الدفاعية أمام التهديدات الحديثة التي لم تعد تتطلب أساطيل أو جيوش جرارة إنما منظومات جوية موجهة بتقنيات عالية تستطيع الوصول إلى العمق بضغطة زر لكن لا يمكن الحصول على هذه التقنيات في عالم لا يمنحك شيئاً مجاناً و لا يمكن انتظار دعم تقني أو تسليحي حقيقي من أي دولة دون أن يكون للسودان ما يقدمه وليس المقابل المادي هو المقصود هنا بل المصالح الاستراتيجية السودان يمتلك موقعاً جيوسياسياً محورياً بين القرن الإفريقي والمجال العربي وعمق الساحل والصحراء وهو ما يمنحه ورقة تفاوض قوية للدخول في تحالفات إقليمية ودولية من موقع الندية بشرط أن يكون صانع و متخذ القرار مدركاً لقيمة هذه الأوراق وقادراً على توظيفها لخدمة المصالح العليا للبلاد.
لاحظت من خلال وسائل التواصل الاجتماعي أن هنالك سؤال إنشغل به الناس كثيراً من يطلق هذه المسيرات؟ لكن السؤال الذي يجب أن يطرح هو كيف نحمي أجواءنا من أي جهة كانت؟ وهو سؤال يفرض تحركاً عملياً نحو تطوير المنظومات الدفاعية الجوية وتحديث أدوات المراقبة والرصد والاستجابة و لا يمكن الحديث عن سيادة وطنية و أمن قومي في ظل أجواء مخترقة بسهولة وتحت رحمة مسيرات تستهدف المدن والمعسكرات والمنشآت دون أي ردع فعلي هذا التحدي يتطلب تفكيراً استراتيجياً عميقاً يتجاوز الإنفعال اللحظي والجدل السياسي العقيم ويدفع باتجاه بناء شراكات دولية ذكية مبنية على تبادل المصالح لا التبعية.
المشكلة اليوم لا تكمن فقط في التهديد إنما كذلك في غياب الرؤية الموحدة للتعامل معه حيث يستمر التراشق الداخلي والاتهامات المتبادلة فيما الواقع يفرض على الجميع أن يتجاوزوا الحسابات الضيقة ويضعوا الأمن القومي فوق كل اعتبار لا بد من الانتقال من ردود الأفعال العاطفية إلى الفعل الاستراتيجي المدروس المبني على فهم معطيات الجغرافيا السياسية والإمكانات الوطنية الكامنة.
البلاد بحاجة إلى منظومة دفاع متكاملة حديثة وإلى إرادة سياسية تستثمر في تأمين الدولة لا في الصراع على إدارتها.
آن الأوان لتقديم المصالح الوطنية على أي مصلحة أخرى والتحرك لبناء منظومة أمن قومي قوية تنطلق من داخل الدولة وتعزز من خلال تحالفات استراتيجية مدروسة تضع السودان حيث يجب أن يكون فاعلاً لا مفعولاً به.
دكتور/حسن شايب دنقس
مدير مركز العاصمة للدراسات السياسية و الاستراتيجية