مقالات

عثمان ميرغني يكتب : نموذج ايلا

خرطوم سبورت

 

 

نموذج ايلا

عثمان ميرغني

عندما تعرضتُ شخصيًا لاعتداء مسلح في مكتبي في يوليو 2014، بتعليمات من عمر البشير، أصدر الدكتور محمد طاهر إيلا، والي ولاية البحر الأحمر آنذاك، بيان إدانة للهجوم، بُث عبر إذاعة وتلفزيون الولاية. كان يعلم جيدًا من أمر بالهجوم ومن دبَّره ومن نفَّذه، لكنه، بثقته العالية بنفسه، تجاوز الحسابات الشخصية الضيقة. سر نجاح إيلا التنفيذي يكمن في جرأته وشجاعته في اتخاذ المواقف والقرارات والعمل الجاد.

#زرتُ ولاية البحر الأحمر، وخرجتُ معه في جولة لتفقد المشاريع التي يشرف عليها. كان يقود سيارته بنفسه، دون حراسة أو سكرتارية. يبدو أن أهل الولاية اعتادوا على شكل سيارته، فما إن يرونه من بعيد حتى يهرعون لتحيته، ويرد عليهم بلطف. في أحد الشوارع، لاحقتنا سيارة صغيرة يستقلها بعض الشباب، وأشاروا إليه بالتوقف. استجاب على الفور، فنزلوا من سيارتهم وطلبوا منه الترجل لالتقاط صور معه. شرحوا له أنهم قدموا خصيصًا من الخرطوم للاحتفال برأس السنة في بورتسودان، ووجدوا فرصة الآن لالتقاط الصور التذكارية.
في طريق العودة إلى مكان إقامتي، قلت له: “دعني أختبر شعبيتك! لنوقف السيارة هنا ونسير المسافة المتبقية مشيًا على الأقدام.” كانت المسافة أقل من نصف كيلومتر. استجاب فورًا، ونزلنا نتمشى. لكنني ندمتُ على هذا الاقتراح! استغرقنا أكثر من ساعتين لنقطع بضعة أمتار فقط. أحاط به الشباب من كل جانب، يصافحهم فردًا فردًا، يرد على أسئلتهم، ويحاورهم. أصروا على التقاط الصور معه، كل واحدٍ يريد صورة منفردة. استمر الأمر أكثر من خمس ساعات لنقطع تلك المسافة القصيرة، دون أي حراسة أو مراسم.

كان إيلا يدير الولاية بمنهج أقرب إلى الكونفدرالية، لا يعتمد على المركز في الخرطوم ولا يعوّل عليه. أحيانًا، كان يبدو وكأنه يتمرد على سلطة المركز التي لا تهتم كثيرًا بأحوال المواطنين. يفكر خارج الصندوق، وينجح بجدارة في تحويل الأفكار إلى واقع ملموس، والأحلام إلى مشاريع مزدهرة.

قال لي إن أكثر ما جعله يشعر بالنجاح كان مشهدًا في إحدى الفعاليات الجماهيرية الكبرى بالاستاد. رأى أحد مواطني بورتسودان يهتف بحماس ويلوّح بـ”مكنسة” أثناء انفعاله بالحدث. في السابق، كانت مهنة النظافة تُعتبر عيبًا اجتماعيًا يتجنبه الناس. رفع عامل النظافة للمكنسة في تلك اللحظة كان دليلًا على التطور المجتمعي الذي يسير جنبًا إلى جنب مع التقدم العمراني، وهذا أعلى درجات إدارة الدولة.

رغم جلوسي معه كثيرًا، نادرًا ما تحدث عن السياسة. تركيزه كان منصبًا على العمل التنفيذي والمشاريع. كلمة السر عنده هي “الإنسان”. كان الوالي الوحيد الذي يصرّ على تقارير دورية ترصد معدلات “البطالة”، وتقدم المشاريع، والسياسات الجديدة التي تؤثر مباشرة على الشباب، النساء، الأطفال، وكبار السن. وحدة إدارته كانت “المواطن” الفرد، وكانت أجهزته الاجتماعية تتابع المشاريع التي تستهدف هذه الفئات في شتى المجالات.

إيلا كان الوالي الوحيد الذي تقيم أسرته معه في الولاية. بينما يدير بقية الولاة ولاياتهم وهم “عزاب”، إذ تُقيم أسرهم في الخرطوم، ويقضي هؤلاء الولاة معظم أوقاتهم مع أسرهم، يديرون الولاية عن بُعد، ويزورونها كالسياح.
المركز في الخرطوم أراد استثمار نجاحات إيلا للتسويق السياسي، لكنه في الوقت ذاته خشي من تمدد “أنموذج إيلا”. كانوا يريدون ولاة موظفين ينفذون الأوامر دون الخروج عن النص، ولا ينجحون بأنفسهم وشعبيتهم، بل بولائهم للمركز. نقلوه واليًا لولاية الجزيرة في محاولة لتقليص بريقه، مدركين الفخاخ المنصوبة في مدني. ورغم ذلك، قاد الولاية بإنجازات غير مسبوقة في تاريخها، رغم كل العراقيل التي وضعها ساستها.
عندما بدأت سفينة الإنقاذ تغرق بعد مظاهرات ديسمبر 2018، حاول البشير إنقاذ نفسه ونظامه بالاستعانة بسمعة إيلا. أتى به في اللحظات الأخيرة رئيسًا للوزراء. بدأ إيلا بقوة في سد منافذ الفساد وتقليم أظافر المفسدين، لكن الشعب السوداني أطلق صافرة النهاية.

#حديث_المدينة الثلاثاء 7 أكتوبر 2025

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى