
عثمان ميرغني يكتب: أرقام د. إبراهيم البدوي
في حوار أجرته “إذاعة دبنقا” مع الدكتور إبراهيم البدوي، وزير المالية الأسبق، أشار إلى أن السودان يحتاج إلى 11 عامًا ليعود إلى مستوى الاقتصاد الذي كان عليه قبل 15 أبريل 2023. وأضاف أن 50 مليون سوداني يحتاجون للعمل المتواصل على مدار 5 سنوات لسد فجوة اقتصادية تقدر بـ160 مليار دولار.
الدكتور البدوي، الخبير الاقتصادي السوداني المعروف، يتمتع بسمعة لا تشوبها شائبة، ويحلل الوضع الاقتصادي من منظور قومي. لا أحد يشك في حرصه على إصلاح الاقتصاد والدولة السودانية، مستندًا إلى خبرته العلمية والعملية الواسعة. ومع ذلك، يبدو أن الأرقام التي قدمها تعكس نهجًا تقليديًا في التحليل الاقتصادي قد لا يتناسب مع “الحالة السودانية” الفريدة. فالأرقام التي استند إليها، لتقدير متطلبات إصلاح الاقتصاد السوداني، تبدو مبنية على معايير عامة تصلح لدول أخرى، لكنها لا تنطبق بالضرورة على السودان.
تقوم نظرية الدكتور البدوي على افتراض وجود “خط صفر مرجعي” يتمثل في اقتصاد السودان قبل الحرب. لكن يمكن إثبات أن السودان، حتى في أفضل حالاته الاقتصادية والسياسية، لم يكن “دولة” بالمعايير الفنية الحقيقية التي تتيح قياس اقتصادها كمرجعية. فبعد تصدير البترول، وتوقيع اتفاق السلام الشامل، وعودة القوى السياسية إلى العمل العلني داخل البلاد، لم يحظَ السودان بمؤسسات مرجعية قوية تثبت مكانته كدولة في محيطها الإقليمي والدولي.
كان السودان محاصرًا بعقوبات أمريكية صارمة، وصلت إلى حد تجميد حسابات المواطنين السودانيين في المؤسسات المالية العالمية. ولم يعد هناك نظام مصرفي قادر على التعامل مع العالم الخارجي إلا من خلال وسطاء دوليين، اضطروا في النهاية إلى التوقف بعد العقوبات الأمريكية الشهيرة على أحد البنوك الفرنسية.
مع انفصال جنوب السودان في عام 2011، تفاقمت الأوضاع الاقتصادية، تلتها مظاهرات 2012، وأعنفها في سبتمبر 2013. توالت الهزات الاقتصادية حتى وصلت ذروتها في 2018، مما أشعل شرارة الثورة التي أطاحت بنظام الإنقاذ الديكتاتوري.
خلال الفترة الانتقالية (2019-2021)، استمرت التداعيات الاقتصادية رغم الانفتاح الدولي ورفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب. لكن الاضطرابات، والمظاهرات، والمتاريس أدت إلى هروب جماعي للقطاع الخاص إلى خارج البلاد. ثم جاء انقلاب 25 أكتوبر 2021 ليكتب الفصل الأخير، ليس فقط للاقتصاد، بل لأطلال الدولة نفسها.
من هنا، يمكن القول إنه لا يوجد “خط صفر مرجعي” يمكن العودة إليه. أي إشارة إلى متطلبات إعادة بناء الاقتصاد السوداني بناءً على مرجعية من الماضي تفتقر إلى الأساس المنطقي.
خط الصفر المرجعي المتاح، بل والأجدر، هو مقدرات السودان – أي موارده المادية، البشرية، المعنوية، والجيواستراتيجية. هذه المقدرات تتيح التخطيط لبناء السودان من جديد، لا لمجرد معالجة ما دمرته الحرب. أؤكد هنا أن المقصود ليس “إعادة الإعمار” أو “إعادة البناء”، فهذه مفاهيم خاطئة لعدم وجود مرجعية صلبة في الماضي، بل “بناء السودان” بخط صفر جديد يعتمد على قدراته الحالية والمحتملة، وليس على ممتلكاته السابقة التي دمرتها الحرب.
“الحالة السودانية” تتطلب رؤية استراتيجية مبنية على فهم عميق لمقدرات السودان المادية، البشرية، المعنوية، والجيواستراتيجية. يجب تصميم خطة استراتيجية قابلة للتنفيذ على مراحل، تتيح فترات زمنية للتقييم وتحديث الخطة. وفق هذا المنظور، لا يمكن قياس الزمن المطلوب لبناء السودان بالسنوات كما فعل الدكتور البدوي عندما تحدث عن 5 سنوات من العمل المتواصل لـ50 مليون سوداني لسد فجوة بـ160 مليار دولار، أو 11 عامًا للعودة إلى ما قبل حرب 15 أبريل 2023. منطق الأرقام هذا، فضلاً عن الأرقام ذاتها، يحمل خطأً جوهريًا.
بناء السودان يتطلب نهجًا جديدًا يتجاوز الحسابات الاقتصادية التقليدية، ويركز على استغلال المقدرات الحقيقية للبلاد. لا يمكن أن نعتمد على ماضٍ لم يكن فيه السودان دولة بمؤسسات قوية، بل يجب أن ننظر إلى المستقبل برؤية استراتيجية تعيد صياغة مفهوم الدولة السودانية من نقطة الصفر.