
أضرب واهرب
الحمامات الحزينة.. والجديد
تتعدد الأسباب، والنزوح إلى مصر واحد.
سنة انقضت ولا زالت مرارات النزوح مستمرة، وحكايات وحكايات تبدأ من نقطة البداية إلى خط النهاية.
ما أنا بصدده هو نزوح مختلف عشته وراقبته وتأملت تفاصيله.
ففي بدايات استقراري وسط القاهرة، في حي السيدة زينب العتيق العريق، ظهرت حمامات كانت تقلع وتهبط لتختفي يومًا أو بعض يوم. شيئًا فشيئًا بدأت في بناء أعشاشها أعلى بلكونة الشقة بالطابق التاسع.
تابعتها وسألت نفسي:
هل هي أصلًا حمامات سودانية كانت مقيمة بالقاهرة ورحلت إلى مسكن هذا النازح الصحفي الذي طالما كتب مستنكرًا على أهله ذبح الحمام – رمز السلام – وأكله، مشيرًا إلى أن معظم شعوب العالم تأبى ذلك، ويعيش الحمام معها في وئام، يمشي بينها ويحط على رؤوسها؟
في اتجاه آخر، تصورت هذه الحمامات نازحة مثلي، أجبرتها الحرب على مغادرة أعشاشها، وبقدرة إلهية هبطت مصر آمنة، واختارت أهلها السودانيين لتقيم معهم.
حمامات سودانية بأرقام وطنية
وصلت إلى قناعة أن هذه الحمامات سودانية بأرقام وطنية.
صوتها يأتي متألمًا بألم الفراق، ويشدو:
“بلدن هيلي أنا”
“سمسم القضارف”
“ليمون بارا”
“على نيل بلادنا سلام، ونخيل بلادنا سلام”
“أرضنا الطيبة، وأرض الخير، ورمال حلتنا”
تتحسر قائلة: “طول مفارق حيو” و*”يا غربة لا”.
تهمس: “فارقنا أعز الناس” و”نحنا راجعين في المغيرب”*.
وتدعو: “متين يا ربي إن شاء الله تلمنا.. قريب يا رب إن شاء الله تلمنا”.
أجزم أن هذه الحمامات سودانية، وأن الحنين والشوق يملآنها.
أتصورها تدعو الله أن يرفع البلاء عن أرضنا وأهلنا، وهي – كما قال الله تعالى –:
“ألم تر أن الله يسبح له من في السموات والأرض كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون”
صدق الله العظيم
حماماتي لم تعد حزينة
هذه المادة نشرتها قبل أكثر من عام، تحديدًا بتاريخ 12 مايو 2024، ومرت الأيام، ولاحظت مؤخرًا أن حماماتي اختفت.
فكرت وقدرت.. ثم تيقنت أنها عادت إلى الوطن عودة طوعية، بعد أن ملت الغربة وقاست البعد، ولم تعد قادرة على الحياة في مصر وتعقيدات الإقامة، إضافة إلى الانفراج الكبير الذي حدث بالبلد، والشوق واللهفة للتراب والحلة والجيران والذكريات الجميلة.
سألت نفسي عن رقم القطار الذي غادرت به، من بين القطارات العشرين التي حملت الآلاف المؤلفة من العائدين الممتلئين بالشوق والحنين.
تأكدت تمامًا أن حماماتي غادرت نهارًا جهارًا، بلا تذاكر ولا تصاريح ولا جوازات، تحت نظرات حنينة من المهندسة أميمة، ونظرات أخرى شفوقة من القائد التاج ناكر الذات، وبإخلاص وتفانٍ من المشرفين على قطارات العودة الطوعية من شباب منظومة الدفاعات الصناعية.
تأكدت أن حماماتي حملت مولودها معها، مع مواليد آخرين وُلدوا بمصر ولا يعرفون شيئًا عن الوطن وجماله.
عذرتها لعدم التلويح مودعة، ففرحتها كانت أكبر من لحظة الوداع.
الآن حماماتي لم تعد حزينة، بل غارقة في فرح مجنون، مع تلك الأسراب المغادرة تباعًا في شوق ولهفة وفرح للوطن.
منظومة الدفاعات الصناعية
التي أعادت النازحين للوطن…
وأعادت الوطن للوطن.
تعظيم سلام
✍️ عبد المنعم شجرابي